لم يكن خيال الإسكندر المقدوني يصوّر له حين عهد لمهندسه "دينوقريطس" ببناء مدينته "الإسكندرية" قبل 332 عاما من ميلاد السيد المسيح أن يكون أحد شارعيها الرئيسيين "إلكاردو" و"ديكيومانس" واحداً من أهم الأدلة على عراقتها ومدى سعتها واحتوائها على شتى الثقافات والعقائد الحرة عبر العصور.
فمنذ تأسيسه حتى الآن -أي بعد مرور أكثر من 2300 عام من مدّه كطريق رئيسي وإطلاق اسم أحد أعظم شعراء هذا العصر عليه- يضم شارع "النبي دانيال" على مدى تلك العصور معابد عديدة للرومان، وبُنيت فيه معابد لليهود ومازال حتى الآن يضم المعبد اليهودي الوحيد المتبقي بالمدينة والذي كان معبدهم الرئيسي قبل هجرتهم من الإسكندرية، كما كُتِب له أن يحتضن أول كنيسة في مصر وإفريقيا وهي كنيسة القديس مرقس والتي تحوي رأسه التي فُصِلَت عن جسده أثناء تعذيبه، وكذلك يضم مسجدين أولهما "سيدي عبد الرازق الوفائي" وهو أحد علماء الدين وكان يعطي دروساً بمسجده هذا، أما الثاني فمسجد النبي دانيال والذي توجد له قصتان مختلفتان.
الأولى أنه كان أحد معابد اليهود ولذلك سمي باسم نبي الله المبشر باليهودية "دانيال" وعند وصول الفتح الإسلامي لمصر تم تحويل المعبد لمسجد وبقي يحتفظ بنفس الاسم، أما الرواية الأخرى وهي طبقاً للأثريين فإن المسجد منسوب للشيخ (دانيال الموصلي) وهو رجل صالح جاء إلى الإسكندرية في نهاية القرن الثامن الهجري وقام بتدريس أصول الدين وتوفي فيها ودفن أسفل المسجد الذي كان يقيم فيه دروسه؛ وكلتا الروايتين تستند لوجود ضريح أسفل المسجد به هيكل لرجل والاختلاف هنا حول صاحبه.
ولفترة اعتقد البعض في وجود مقبرة الإسكندر المقدوني في نفس هذا الشارع الأسطوري، حتى أنه لفترة ظل يحمل اسم "شارع السوما" أي "شارع المقبرة الملكية"، إلا أن ذلك افتراض لم تثبت صحته مطلقا، وحتى الآن لايزال البحث مستمرا عن مقبرة الإسكندر المجهولة.
ومنذ منتصف القرن الماضي، اكتسب شارع النبي دانيال أهمية إضافية، إذ أصبح يعرف بأنه "شارع الكتب" في الإسكندرية، يتشابه في ذلك مع "سور الأزبكية" الشهير في قلب القاهرة.
يمتد شارع "النبي دانيال" من ميدان محطة مصر جنوباً حتى محطة الرمل شمالاً، وإذا كانت محال الملابس والمطاعم والأجهزة الكهربائية تستحوذ على أحد جانبي الشارع، فإن الجانب الآخر محجوز لأكشاك صغيرة ولأصحابها من بائعي الكتب المستعملة والقديمة بطول الرصيف حتى التقاطع مع شارع فؤاد.
أحد باعة الكتب قال لـ"بص وطل" وهو يشير إلى الزحام الذي يميز الشارع: "هذا المشهد يستحق أن يوثق ليوضح قدرة "النبي دانيال" على جذب كل البشر.. الأجانب والعرب والمصريين.. كبار السن وشباب الجامعات والأطفال جميعهم يرغب في أن يجد ضالته من كتاب تعليمي أو مجلة أو رواية لدينا.. نحن كباعة سور الأزبكية في القاهرة، تجد لدينا في أغلب الوقت ما تريد.. قلّب وشوف".
تنتشر الكتب في كل شبر من هذا الجانب في الشارع ويطلق عليه طلبة الجامعة "شارع الكتب" وكثير من الأدباء السكندريين يطلقون عليه "شارع الأدب" لما يجدون فيه من شتى الألوان من كل أنواع الكتب؛ من تاريخ وجغرافيا وكيمياء، وأدب عربي قديم، وأدب روسي وإيطالي وفرنسي وإنجليزي، ومجلات فنية، ورياضية، وكتب دين.. بل إن نسبة كبيرة من هذه الكتب تصنف بأنها "نادرة" إلا أن جميعها أسعارها زهيدة جداً.
كما يضم الشارع مباني تتّسق مع طبيعته ورائحة الكتب التي تسكنه مثل المركز الثقافي الفرنسي وبعض المكتبات والمطابع وأيضاً مباني تابعة لمؤسستي "الأهرام" و"أخبار اليوم" بجانب عدد ليس بالقليل من المباني القديمة التي تعد تحفا معمارية توثقها المحافظة حالياً بمعاونة المركز الثقافي الإيطالي ومكتب معماريي إيطاليا بالإسكندرية.
النبي دانيال.. مكان سكندري جديد معبّق بألف رائحة من الماضي يستحق الزيارة والفسحة والبحث عن الكتب الممتعة.. وقلّب وشوف!
منقول
الرئيسية 
أحدث الصور 
موضوع: شارع النبي دانيال.. "رائحة الكتب" على هوا "الإسكندر الأكبر"! 
الأحد يونيو 14, 2009 8:33 am
